باريس: عبدالحفيظ بوبكرى
في خضم زحمة الأسماء وسرعة الإنتاج وتهافت المعارض هناك فنان مغربي قرر أن يسلك طريقًا آخر طريقًا مليئًا بالتأمل بالإخلاص وبالاشتغال الصامت على التفاصيل إنه محمد الشياضمي الفنان التشكيلي العصامي الذي اختار أن يكون أمينًا للتراث البصري المغربي وجعل من كل لوحة له مرآة لذاكرة ممتدة بين الصويرة وفاس بين الحلم والتاريخ بين الحرف وروح الأرض
لقد لفتني هذا الاسم حين اطلعت على بعض أعماله منشورة على صفحته في فيسبوك فشعرت وكأنني أمام رسام يشتغل ليس فقط على مستوى الصورة بل على مستوى الروح أيضًا ثم لم يطل الأمر كثيرًا حتى علمت بأن الأكاديمية الفرنسية للفنون والعلوم والآداب منحته أواخر سنة 2023 ميدالية برونزية اعترافًا بإبداعاته ذات البصمة التراثية الأصيلة التي تجاوزت حدود الشكل لتخاطب العمق الجمالي الإنساني
وليس من السهل أن تُلفت انتباه هذه المؤسسة العريقة إلا إذا كان وراء اللوحة صوت داخلي صادق وحضور بصري أصيل وهذا ما يتميز به الشياضمي الذي لم يركن إلى المدارس الكلاسيكية بل استقى تكوينه من حرفيي الزليج والنقش والخط والزرابي والجبص المغربي حيث تعلم منذ صغره أن الفن ليس ترفًا بل رسالة وذاكرة وروح
ما يثير الإعجاب بحق ويضع هذا الفنان في مصاف القلائل المخلصين لتقنياتهم هو أنه لا يكتفي برسم اللوحة بل يتولى بنفسه إعداد المواد والخامات التي يشتغل بها فهو يخلط الألوان على مهل ويستخلص الأصباغ من مكونات طبيعية وتقليدية ويعد القواعد والصباغات بمقاييس دقيقة وبحس صنايعي حقيقي لا يعتمد على المواد الجاهزة المتوفرة في السوق بل يصنع لغته التشكيلية من جذور الطين وأثر الحطب وحرارة الشمس كما لو أنه يعيد صياغة زمن غابر بريشة العصر
في مرسمه المتواضع حيث لا ضجيج سوى صدى الألوان وتنهيدات الأقمشة يواصل محمد الشياضمي رسم لوحاته واحدة تلو الأخرى بأسلوبه التقليدي الغني بالتفاصيل الدقيقة وهو ما يجعل كل لوحة تشبه قطعة من الزمان تنطق بروح المكان وتُعيد للمتلقي ذاكرته الغافية لا يهمه كم سيبيع ولا في أي صالة سيعرض بل يهمه أن تخرج كل لوحة نقية وفية صادقة
لوحاته المنشورة على صفحته في فيسبوك كافية لأن تكشف للعين الخبيرة أو حتى البسيطة مدى دقة المخزون التراثي الذي يحمله في قلبه قبل ريشته من زخارف الزليج إلى تكوينات الخط العربي ومن رموز البادية إلى لمسة المدينة العتيقة كل شيء يتنفس في هذه الأعمال هندسة الروح إيقاع الضوء وضربات ريشة لا تبحث عن المجد بل عن الارتقاء بالجمال نحو رسالته الأنقى
إننا في انتظار أن تُعرض هذه الأعمال داخل المغرب أو خارجه لأن ما يقدمه هذا الفنان يتجاوز حدود الجغرافيا ويخاطب القيم الكونية للجمال للتنوع وللأصالة ومن المؤكد أن العالم يحتاج إلى مثل هذه العيون التي ترى من الداخل ومثل هذه الأيادي التي تعرف كيف تُنصت لما تقوله الجدران القديمة والأبواب والحنفيات النحاسية والنقوش المنسية
محمد الشياضمي لا يرسم من أجل أن يُرى بل من أجل أن يُشعِر الآخر أن ثمة شيئًا ما يجب أن يُحفظ أن يُعتز به وأن يُعاد تأمله فكل لوحة هي جملة من نص بصري طويل عنوانه هذا وطني كما لم تره من قبل
تحية لهذا الفنان الذي حمل التراث على كاهله وصاغه بلغة العصر دون يُذكر وأن يُكتب عنه لا بمداد الصحف فقط بل بمداد الاعتزاز